إن التربية على الحب هي ركيزة أساسية في تشكيل الشخصية الإنسانية المتزنة، وبوابة لبناء الذات القادرة على التعايش والإبداع، فالحب قيمة إنسانية عليا، وطاقة كونية تحرك العلاقات الإنسانية وتبني الحضارات، فالتربية على الحب تعني إعداد الفرد ليعيش بوعي ومسؤولية، ويتجاوز حدود المشاعر الفردية ليشمل احترام الذات وصون الكرامة الإنسانية، وتقدير الآخر المختلف في ثقافته ودينه وفكره، والاعتناء بالكون والبيئة بوصفهما أمانة مشتركة، ورعاية الكون والبيئة والانتماء إلى منظومة القيم الرفيعة التي تسمو بالإنسان وتمنحه المعنى والغاية، وحين تغرس هذه القيمة في التربية منذ الطفولة، تتحول إلى طاقة إيجابية بناءة تعزز التسامح والتفاهم والتضامن، وتمهد الطريق لسلام مجتمعي وعالمي حقيقي، حيث يتصالح القلب مع العقل، وتتصالح الروح مع إنسانيتها الواسعة، فيغدو الحب لغة مشتركة توحد وتبني.
وتبدأ التربية على الحب من الداخل، من تعليم الإنسان كيف يحب ذاته حبًا إيجابيًا مسؤولًا يحرره من الأنانية ويهذب رغباته، فحب الذات هو جهاد للنفس وتزكيتها، وهو ما عبر عنه النبي ﷺ بقوله (المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله)، وهذا الحب الواعي يربي الإنسان على التوازن الداخلي، فيتعلم احترام نفسه وتقديرها من دون غرور، والانفتاح على الآخرين والتكيف معهم، فمن ينشأ في بيئة مشبعة بالمحبة والتقدير يشعر بالأمان الداخلي والسكينة، وهو ما ينعكس على ثقته بنفسه، وقدرته على التفاعل الإيجابي مع الآخرين، فيصبح فردًا بناء في أسرته ومجتمعه.
وتعد التربية على الحب مشروعًا إنسانيًا يشكل حجر الزاوية في بناء الشخصية المتوازنة، ويمنحها القدرة على التعايش والإبداع والإسهام في بناء عالم أكثر إنسانية، فالحب قيمة تربوية سامية تتجلى في احترام الذات، وحفظ الكرامة الإنسانية، وتقدير الآخر المختلف في فكره وثقافته ودينه، والاعتناء بالكون والبيئة بوصفهما أمانة مشتركة بين البشر ومسؤولية أخلاقية، إنه انتماء إلى منظومة من القيم التي ترفع الإنسان من حدود الأنا إلى رحابة الإنسانية الجامعة.
وعندما تغرس هذه القيمة في الوجدان تتحول إلى طاقة حياة إيجابية تترجم في السلوك اليومي تسامحًا وتفاهمًا وتضامنًا، وتصبح التربية على الحب مدخلًا لبناء سلام داخلي يثمر سلامًا مجتمعيًا وعالميًا حقيقيًا، وحين يلتقي القلب بالعقل، وتتصالح الروح مع إنسانيتها الواسعة، يكون الحب لغة عالمية خالدة توحد، وتبني، وتعيد للإنسان إنسانيته التي هي أصل وجوده ومبتدأ رسالته في الحياة.
وحين يصبح الحب قيمةً متجذرة في بنية التربية، فإنه يثمر علاقات إنسانية راقية تقوم على الاحترام المتبادل، والتفهم العميق، والرعاية المتبادلة، وتؤكد اتجاهات التربية الحديثة أن تنمية هذا البعد العاطفي تشكل أساسًا لبناء الشخصية المتوازنة، حيث يعد الذكاء العاطفي اليوم من أبرز مؤشرات النجاح في الحياة الاجتماعية والمهنية، لما يمثله من قدرة على فهم الذات والآخرين وإدارة المشاعر بحكمة وتعاطف.
وقد عبر أرسطو عن هذا المعنى حين رأى أن الصداقة القائمة على الحب الصادق هي أرقى أشكال العلاقات الإنسانية، لأنها تستند إلى الفضيلة وتزدهر في بيئة من الثقة والإخلاص، وفي سيرة نبينا الكريم ﷺ العطرة يتجلى هذا البعد القيمي بأبهى صوره، فقد جعل الحب أصلًا في دعوته، فقال (ألا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، ليؤكد أن نشر المحبة هو أساس التآلف والوحدة بين الناس، كما أن العلاقات الأسرية والتربوية حين تتأسس على الحب، تنشئ أفرادًا أسوياء، قادرين على الإنصات والحوار والمسامحة، يمتلكون مناعة نفسية ضد العنف والانغلاق.
ويتجلى الحب في أسمى معانيه حين يتحول إلى انتماء أصيل للوطن، يعبر عنه بهويةً ثقافية وروحية وتاريخية، ومجالًا تتمثل فيه القيم العليا للوفاء والعطاء، فـمن أحب وطنه بصدق، أخلص له عملًا لا قولًا، وصانه بفكره وجهده، وأسهم في نمائه واستقراره بما يملك من علم وضمير، فالتربية على الحب الوطني هي بناء للوجدان الجمعي، يقوم على الإخلاص، والعمل الجاد، والانتماء الواعي، بحيث يصبح الوطن في وجدان الفرد امتدادًا لذاته، وسكنًا لضميره، ومسؤوليةً يعيش من أجلها.
وتمثل التربية الكونية على الحب ذروة النضج الإنساني فهي تؤسس لوعي عالمي مشترك، يقوم على الإيمان بوحدة المصير الإنساني، واحترام كرامة الإنسان وتؤدي لنضج الحسّ الإنساني في المتعلم، وتُحرره من الانغلاق والتعصب، ليعي أن انتماءه للوطن هو انتماء للعالم يكمله ويمنحه عمقًا إنسانيًا، فـالتربية الكونية على الحب تهدف إلى بناء إنسانٍ يتعامل مع العالم بعقل ناقد وقلب رحيم، ويؤمن أن العدالة والسلام والتنوع الثقافي هي أسس بقاء البشرية وتكوين مواطن عالمي قادر على الحوار، يحترم الاختلاف، ويستثمر التنوع مصدرًا للتعاون والإبداع.
ويحتاج العالم في ظل ما يشهده من حروب ونزاعات وتحديات بيئية وثقافية، لتربية كونية على الحب تعيد الإنسان إلى إنسانيته، وتذكره بأننا جميعًا شركاء في سفينة واحدة، وأن الحب هو اللغة التي يمكن أن تنقذ الوجود من الانقسام والتناحر، وفي هذا الإطار أكدت أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، ولا سيما الهدف السادس عشر، على ضرورة ترسيخ السلام، والعدل، واحترام الأخر، وهي قيم لا تتحقق إلا في بيئةٍ تربويةٍ تعلم الإنسان كيف يحب، وكيف يتحاور، وكيف يختلف برقي واحترام.
ولكي تتحول التربية على الحب إلى ممارسة واقعية مؤثرة، لا بد من ترجمتها إلى سياسات تربوية ومناهج تعليمية وسلوكيات وممارسات يومية تعكس جوهرها الإنساني، ويتحقق ذلك من خلال دمج مفاهيم التعاطف، والتعاون، والاحترام المتبادل في المناهج الدراسية، وتنمية الذكاء العاطفي لدى المتعلمين منذ الصفوف الأولى، عبر أنشطة تتيح لهم التعبير عن مشاعرهم، وفهم مشاعر الآخرين، والتفاعل الإيجابي مع المواقف الحياتية المختلفة، حيث تمثل الأنشطة الجماعية في المدرسة والمجتمع مجالًا خصبًا لترسيخ روح الفريق والانتماء والمسؤولية المشتركة.
أما المعلم، فيبقى الركن الأساسي في تحقيق هذه الرؤية، فالحب التربوي أحد أرقى أشكال الوعي المهني، ويتجلى في ممارساته اليومية من تقبل للطلاب، وإصغاء صادق، وتشجيع بناء، ليصبح التعليم فعل رعاية قبل أن يكون نقلًا للمعرفة، كما ينبغي أن تشمل التربية على الحب تنمية الذائقة الجمالية لدى الأطفال، من خلال ربطهم بالجمال في الفن، والطبيعة، والموسيقى، بوصفها منافذ للحس الإنساني ومصادر للسلام الداخلي.
ونؤكد أن الحب وعي راق وقيمةٌ تربوية عليا، وموقف أخلاقي يعيد للإنسان اتزانه الداخلي، ويمنحه رؤيةً شاملة للحياة، فبالحب تبنى الأوطان على أسس الإخلاص والانتماء، وتزدهر العلاقات الإنسانية بالعطاء والاحترام، وتحفظ البيئة وتنمو بالرحمة والمسؤولية، وبالحب وحده يقترب العالم من وجهه الإنساني النبيل، حيث تتفتح القلوب على الخير، وتلتقي الأرواح على السلام، فلنجعل من الحب قضية تربوية خالدة، ومن التربية بوابة لإعداد إنسان أرقى، وعالم أكثر رحمة وسلامًا، فمستقبل الإنسانية ينبض في قلب يعرف كيف يحب.
بقلم
أ.د/ مها محمد عبد القادر
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر